الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
وقيل: الفلق: الجبال والصخور تنفلق بالمياه، أي تتشقق.وقيل: هو التفليق بين الجبال والصخور، لأنها تتشقق من خوف الله عز وجل. قال زهير: الراكس: بطن الوادي. وكذلك هو في قول النابغة: والراكس أيضا: الهادي، وهو الثور وسط البيدر، تدور عليه الثيران في الدياسة.وقيل: الرحم تنفلق بالحيوان.وقيل: إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان والصبح والحب والنوى، وكل شيء من نبات وغيره، قاله الحسن وغيره. قال الضحاك: الفلق الخلق كله، قال: قلت: هذا القول يشهد له الاشتقاق، فإن الفلق الشق. فلقت الشيء فلقا أي شققته. والتفليق مثله. يقال: فلقته فانفلق وتفلق. فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق، قال الله تعالى: {فالِقُ الْإِصْباحِ} [الأنعام: 96] قال: {فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى} [الأنعام: 95].وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي: يعني بالفلق هنا: الصبح بعينه. والفلق أيضا: المطمئن من الأرض بين الربوتين، وجمعه: فلقان، مثل خلق وخلقان، وربما قالوا: كان ذلك بفالق كذا وكذا، يريدون المكان المنحدر بين الربوتين، والفلق أيضا مقطرة السجان. فأما الفلق بالكسر: فالداهية والامر العجب، تقول منه: افلق الرجل وأفتلق. وشاعر مفلق، وقد جاء بالفلق أي بالداهية. والفلق أيضا: القضيب يشق باثنين، فيعمل منه قوسان، يقال لكل واحدة منهما فلق، وقولهم: جاء بعلق فلق، وهي الداهية، لا يجرى مجرى عمر. يقال منه: أعلقت وأفلقت، أي جئت بعلق فلق. ومر يفتلق في عدوه، أي يأتي بالعجب من شدته. وقوله تعالى: {مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ} قيل: هو إبليس وذريته. وقيل جهنم.وقيل: هو عام، أي من شر كل ذي شر خلقه الله عز وجل.الخامسة: قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ} اختلف فيه، فقيل: هو الليل. والغسق: أول ظلمة الليل، يقال منه: غسقا الليل يغسق أي أظلم. قال ابن قيس الرقيات: وقال آخر: هذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم. ووَقَبَ على هذا التفسير: أظلم، قاله ابن عباس. والضحاك: دخل. قتادة: ذهب. يمان بن رئاب: سكن.وقيل: نزل، يقال: وقب العذاب على الكافرين، نزل. قال الشاعر: وقال الزجاج: قيل الليل غاسق لأنه أبرد من النهار. والغاسق: البارد. والغسق: البرد، ولان في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من أماكنها، وينبعث أهل الشر على العيث والفساد.وقيل: الغاسق: الثريا، وذلك أنها إذا سقطت كثرت الاسقام والطواعين، وإذا طلعت ارتفع ذلك، قال عبد الرحمن بن زيد.وقيل: هو الشمس إذا غربت، قاله ابن شهاب.وقيل: هو القمر. قال القتبي: إِذا وَقَبَ القمر: إذا دخل في ساهوره، وهو كالغلاف له، وذلك إذا خسف به. وكل شيء أسود فهو غسق.وقال قتادة: إِذا وَقَبَ إذا غاب. وهو أصح، لان في الترمذي عن عائشة: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نظر إلى القمر، فقال: «يا عائشة، استعيذي بالله من شر هذا، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.وقال أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الاعرابي في تأويل هذا الحديث: وذلك أن أهل الريب يتحينون وجبة القمر. وأنشد: وقيل: الغاسق: الحية إذا لدغت. وكان الغاسق نابها، لان السم يغسق منه، أي يسيل. ووقب نابها: إذا دخل في اللديغ.وقيل: الغاسق: كل هاجم يضر، كائنا ما كان، من قولهم: غسقت القرحة: إذا جرى صديدها.السادسة: قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ} يعني الساحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها. شبه النفخ كما يعمل من يرقي. قال الشاعر: وقال متمم بن نويرة: وقال عنترة: السابعة: روى النسائي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من عقد عقدة ثم نفث فيها، فقد سحر ومن سحر فقد أشرك، ومن تعلق شيئا وكل إليه». واختلف في النفث عند الرقي فمنعه قوم، وأجازه آخرون. قال عكرمة: لا ينبغي للراقي أن ينفث، ولا يمسح ولا يعقد. قال إبراهيم: كانوا يكرهون النفث في الرقي.وقال بعضهم: دخلت على الضحاك وهو وجع، فقلت: ألا أعوذك يا أبا محمد؟ قال: بلى، ولكن لا تنفث، فعوذته بالمعوذتين.وقال ابن جريج قلت لعطاء: القرآن ينفخ به أو ينفث؟ قال: لا شيء من ذلك ولكن تقرؤه هكذا. ثم قال بعد: انفث إن شئت. وسيل محمد بن سيرين عن الرقية ينفث فيها، فقال: لا أعلم بها بأسا، وإذا اختلفوا فالحاكم بينهم السنة. روت عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان ينفث في الرقية، رواه الأئمة، وقد ذكرناه أول السورة وفي سبحان. وعن محمد بن حاطب أن يده احترقت فأتت به أمه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فجعل ينفث عليها ويتكلم بكلام، زعم أنه لم يحفظه.وقال محمد بن الأشعث: ذهب بي إلى عائشة رضي الله عنها وفي عيني سوء، فرقتني ونفثت. وأما ما روي عن عكرمة من قول: لا ينبغي للراقي أن ينفث، فكأنه ذهب فيه إلى أن الله تعالى جعل النفث في العقد مما يستعاذ به، فلا يكون بنفسه عوذة. وليس هذا هكذا، لان النفث في العقد إذا كان مذموما لم يجب أن يكون النفث بلا عقد مذموما. ولان النفث في العقد إنما أريد به السحر المضر بالأرواح، وهذا النفث لاستصلاح الأبدان، فلا يقاس ما ينفع بما يضر. وأما كراهة عكرمة المسح فخلاف السنة. قال علي رضي الله عنه: اشتكيت، فدخل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا أقول: اللهم إن كان أجلي قد حضر فأرحني، وإن كان متأخرا فاشفني وعافني، وإن كان بلاء فصبرني. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيف قلت؟ فقلت له: فمسحني بيده، ثم قال: اللهم أشفه فما عاد ذلك الوجع بعد». وقرأ عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر ورويس عن يعقوب مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ في وزن فاعلات. ورويت عن عبد الله بن القاسم مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنهما. وروي أن نساء سحرن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوذتين إحدى عشرة آية. قال ابن زيد: كن من اليهود، يعني السواحر المذكورات.وقيل: هن بنات لبيد بن الأعصم.الثامنة: قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ} قد تقدم في سورة النساء معنى الحسد، وأنه تمنى زوال نعمة المحسود وإن لم يصر للحاسد مثلها. والمنافسة هي تمني مثلها وإن لم تزل. فالحسد شر مذموم. والمنافسة مباحة وهي الغبطة. وقد روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «المؤمن يغبط، والمنافق يحسد»وفي الصحيحين: «لا حسد إلا في اثنتين» يريد لا غبطة. وقد مضى في سورة النساء والحمد لله. قلت: قال العلماء: الحاسد لا يضر إلا إذا ظهر حسده بفعل أو قول، وذلك بأن يحمله الحسد على إيقاع الشر بالمحسود، فيتبع مساوئه، ويطلب عثراته. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا حسدت فلا تبغ...» الحديث. وقد تقدم. والحسد أول ذنب عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي به في الأرض، فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل. والحاسد ممقوت مبغوض مطرود ملعون ولقد أحسن من قال: التاسعة: هذه سورة دالة على أن الله سبحانه خالق كل شر، وأمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتعوذ من جميع الشرور. فقال: مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ. وجعل خاتمة ذلك الحسد، تنبيها على عظمه، وكثرة ضرره. والحاسد عدو نعمة الله. قال بعض الحكماء: بارز الحاسد ربه من خمسة أوجه: أحدها- أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره. وثانيها- أنه ساخط لقسمة ربه، كأنه يقول: لم قسمت هذه القسمة؟ وثالثها- أنه ضاد فعل الله، أي إن فضل الله يؤتيه من يشاء، وهو يبخل بفضل الله. ورابعها- أنه خذل أولياء الله، أو يريد خذلانهم وزوال النعمة عنهم. وخامسها- أنه أعان عدوه إبليس.وقيل: الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة ألا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم: آكل الحرام، ومكثر الغيبة، ومن كان في قلبه غل أو حسد للمسلمين». والله سبحانه وتعالى أعلم.
|